حين يلد الوطن فشله

محمد عبدالرقيب نعمان:
الكيد السياسي إقترن بالجهالة ، وأنجبا الحقد السياسي والفشل السياسي ، ومن نسلهم وُلد واقع مشوّه إجتماعياً وثقافياً واقتصادياً ؛ تلك هي سيرة اليمن في قرنٍ من الخيبات ، وسيرة تعز في عقدٍ من العذاب .
منذ أن تحوّلت السياسة في اليمن إلى حيلةٍ ومؤامرة، لا إلى رؤيةٍ ومسؤولية ، نشأ جيلٌ من الساسة لايعرف من الوطن إلا خارطته التي تُقسم وتُوزّع كغنيمة .
كانت الجهالة هو الزوجة الشرعية لهذا الكيد ، فأنجبا دولة بلا عقل ، وثوراتٍ بلا مشروع ، ونخبةً تعيش على ماضٍ تعجز عن ترجمته إلى مستقبل .
الحقد السياسي هنا ليس صدفة ، بل عقيدة تتوارثها النخب منذ زمن الإمامة حتى جمهوريات اليوم ؛ كل طرف يحمل سيف ثأره القديم ويغرسه في خاصرة الوطن ، لا في صدر خصمه ؛ ولذلك لم تعرف اليمن سلاماً ، لأنّ من يحكمها لايريد وطناً قوياً متماسكاً ، بل قطعاً قابلة للهيمنة والابتلاع والتوريث .
أما الفشل السياسي ، فهو الابن البكر لذلك الزواج المشؤوم بين الكيد والجهالة ؛ دولة تنهض لتسقط ، وثورة تُعلن لتُغتال ، ومؤسسات تُبنى لتُنهب ، وشعب يظلُّ يُنادى بإسمه في الخطب ، لكنه غائب عن كل قرار .
ومن نسلهم جميعاً جاء هذا الواقع المشوّه الذي نعيشه اليوم ؛ مجتمعٌ ممزّق الهويّة ، ثقافةٌ ضحلةٌ فقدت بوصلتها ، واقتصادٌ أُغرق عمداً في فوضى الفساد والنهب ، ليبقى اليمن مجرد مساحة للعناء ، لا للوطن .
في تعز تحديداً ، تتجلى القصة بأكثر صورها قسوة ؛ فهنا إلتقى الكيد السياسي بكل ألوانه ، وتغلغل الجهل في عباءة الدين والزعامة ، حتى صارت المدينة التي كانت يوماً منارة الوعي ، ميداناً لصراعاتٍ تُدار بعقلٍ ضيّقٍ وانفسٍ مريضة .
الأحزاب التي كانت تُبشّر بالحرية ، فقدت أدوارها ، والمقاومة التي حملت أحلام التحرير ، صارت تُدار كغنيمة حرب ؛ وبين هذا وذاك ، أفرغت وجُرّدت تعز من حقيقتها ، من دورها الطليعي ومن ضميرها التاريخي .
تعز اليوم ، يتنازعها إخوة العداء قبل خصومها المتربصون في تخومها ؛ حقدٌ سياسي يلتهم منجزها ، وفشلٌ إداري يقتل روحها ، وجهالةٌ تتكلم بإسم الدين والتضحيات والوطن وهي لا تعرف منهم سوى الشعارات .
تحوّل الوعي إلى تهمة ، والثقافة إلى عبء ، والمثقف إلى متفرّجٍ على خرابٍ يتقدّم بخطى ثابتة .
إقتصادياً ، غابت العدالة وغلبت الفوضى ؛
اجتماعياً ، تآكلت الثقة بين أبناء البيت الواحد ؛ وثقافياً ، صارت الأصوات الحرة تُخمد ، والوجوه الفاسدة تتكاثر كالأعشاب الضارة في بستانٍ مهجور ..
هذا هو الحال حين تقترن السياسة بالجهالة ، تلد أجيالًا مريضة بالولاء لا بالوعي تربّي مجتمعا يُصفّق للجلاد ويخاف من النور وتورّث المدن لعنة الإنفلات والفوضى .
تعز اليوم ليست ضحية الحصار فحسب ، بل ضحية أبناءٍ خانوا فأنبطحوا ، ورثوا من أسلافهم داء الكيد وجهالة الطمع .
فإن أرادت أن تُشفى ، فعليها أن تقتل في داخلها هذا النسل الملعون ، وتلد من جديد وعياً نقياً يطهّرها من تاريخٍ لم يكن يوماً قدراً ، بل صناعة أيدي من كادوا لها .